الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة من تاريخ إقامة المحارق للكتب ونصب المشانق للمكتبات... ماذا قال ابن حزم وابن رشد واللهب يطال مؤلّفاتهم؟

نشر في  01 ديسمبر 2020  (11:34)

تكفير ونبذ للفكر والمعرفة وحرق للكتب وطمس للإبداع... أزمنة تتبدّل والمعاناة فيها تتكرّر وتتكرّر... ما أصابكم أيها العرب؟ حسبكم يا أشباه المسلمين، ماذا تحسبون أنفسكم فاعلين؟ ماذا دهى هذا البلد؟ تحجّرت فيه عقول وسكن فيها الجهل والتعصّب حتّى تلبّدت بغيوم الظلام فحلّ فيها لون الرماد وسرى فيها الحسد !

حرقت كتب وصُلّبت جُمل ونُصبت المشانق للحروف والكلمات، فتساقطت بتلات الإنسانية وشحّ نبعها وتورّطت في الجريمة أيادي مرتعشة خشبية رغم اختلاف ازمنة وجودها وتعددت مواطن تجذّرها...

ولعلّ حادثة تعرّض منزل الدكتورة والأديبة المبدعة آمنة الرميلي وزوجها الأستاذ الباحث البشير الوسلاتي الى السرقة وحرق مكتبتهما، وهي حادثة  اهتزّ على وقعها وجدان تونس المفكّرة، واستنكرها كل التونسيين الاحرار...

لعلّ هذه الحادثة أعادت إلى أذهاننا مشاهد مؤلمة من تاريخ مآسي "هولوكوست" الكتب وإتلاف المكتبات، ودفعت بنا الى استرجاع مقولات أعادت الأمل وحاربت به ماضيها الأليم الذي حفّت به أفكار الجهل والتعصّب التي رفضت كل عقل نيّر مختلف يأبى كل مظاهر الجمود والتخلّف...

يقول  العالم الكبير والفقيه ابن حزم وهو الذي أحرقوا أمام ناضريه كتبه التي نفخ فيها من روحه وعصر فيها لبّ عقله وفؤاده وأفنى عمره في كتابتها فرآها تحترق أمام عينه بعدما تم إشعال فتيل الخلاف بينه وبين الخليفة «المعتضد بن عبّاد» مستشهدين بكتابه "طوق الحمامة في الألفة والألاف" ، قال ابن حزم متألمًا:

فَإِنْ تُحْرِقُوا القِرْطَاسَ لاَ تُحْرِقُوا الَّذِي ** تَضَمَّنَهُ القِرْطَاسُ بَلْ هُوَ فِي صَدْرِي
يَسِيْرُ مَعِي حَيْثُ اسْتَقَلَّتْ رَكَائِبِي ** وَيَنْزِلُ إِنْ أَنْزِلْ وَيُدْفَنُ فِي قَبْرِي

دَعُوْنِيَ مِنْ إِحْرَاقِ رَقٍ وَكَاغَدٍ ** وَقُولُوا بِعِلْمٍ كَي يَرَى النَّاسُ مَنْ يَدْرِي
وَإِلاَّ فَعُوْدُوا فِي المَكَاتِبِ بَدْأَةً ** فَكَمْ دُوْنَ مَا تَبْغُونَ للهِ مِنْ سِتْرِ

أمّا الفيلسوف ابن رشد فقد كان يوم محرقة عرق فكره ينظر إلى كتبه والنار تلتهمها الواحد تلو الآخر، لكنّه وقف شامخا بجلد كبير لم يحرّك ساكنا فيما كان خادمه يقف بالقرب منه يذرف الدموع ويتحسّر على مآل كتب كان شاهدا على تاريخ ولادتها من لدن صاحبه الذي سكب فيها زاد عمره من معرفة وبحث لا يعرف الكلل ولا الملل...

 وعوض أن يواسي ابن رشد حاله كان يربّت على ظهر خادمه للتخفيف عن آلامهالتي تماهت مع أوجاعه  وهو يقول له:

**إذ كنت تبكي حال المسلمين، فاعلم أن بحار العالم لن تكفيك دموعاً،

أما إذا كنت تبكى الكتب المحروقة، فاعلم أن للأفكار أجنحة وهي تطير**

  وقد حرقت كتب ابن رشد في ساحة أشبيلية، لخلاف سياسيّ بينه وبين الخليفة المنصور حيث استغلت فلسفته لاتهمامه بالكفر والزندقة...

وتعدّدت طرق إتلاف الكتب إمّا بالحرق، والدفن، أو بالإغراق والغسل بالماء، والتقطيع والتخريق. فحُرقت مكتبة الإسكندرية لدرجة أن كتبها أخذت لتصنع من جلودها النعال. أما ورقها، فقد جعلوا منه وقودا للحمامات استمر لأربع سنوات، كما روى الزمخشري.

وقد عرفت مكتبة الاسكندرية بانها أول وأعظم مكتبة في التاريخ، وضمّت أكبر مجموعة من الكتب في العالم القديم والتي وصل عددها آنذاك إلى 700 ألف مجلد بما في ذلك أعمال هوميروس ومكتبة أرسطو.

كما طالت عمليات الحرق مؤلفات كبار الفقهاء والمفكرين نذكر منهم كذلك ابن مسرة، أبو حامد الغزالي، لسان الدين بن الخطيب...

وظاهرة حرق الكتب ليست حكرا على مجتمع بعينه او طائفة بعينها، بل شهدت مثلها مختلف حضارات العالم. ولعلّ أشهر حملة شعواء لحرق الكتب تم تسجيلها في تاريخ الإنسانية تلك التي أقدم عليها الإمبراطور الصيني "شي هوانغ تي" في العام 212 قبل الميلاد، حين قاد حربه على الكتب القديمة فأمر بلإتلاف وحرق جميع الكتب في الإمبراطورية والدافع جنون العظمة حيث لم يكن يرغب في أن يذكر أحد غيره على مرّ التاريخ.

ولعلّ لمرتكبي الجرائم الملعونة الموجّهة ضدّ الفكر والمعرفة، الوعي الكافي ليعلموا وقع مكيدتهم، فهم حتما يعلمون أنّ حرق كتاب هو بمثابة القهر لروح كاتبها تلك الروح التي تماهت أنفاسها داخل الصفحات وانسكب عطرها في ثنايا الأسطر وزوايا المعاني المسافرة بالقارئ إلى خيالات لا تحدّها أطر ولا توقفها مسافات...

إلّا أنهم حقّا لا يعلمون أنّ الأفكار شاهقة ناجية... ولا ينضب عطاء يمّها ولا يجف منبع بحرها... إنّ الأفكار لساخرة حقّا من مشاهد النار، فهل يخيّل إليهم حقّا أنّ ألسنة النّار قادرة على إطفاء إشعاع النور؟ نور فكر  كان ولا زال قادرا على إشعال شرارة تاريخ المعرفة والادب والفلسفة والفنون...

فكل التضامن مع الكاتبة آمنة الرميلي التي ستضلّ قريحتها الولّادة تشذو بعبق الإبداع والخيال فتلملمنا وتحملنا برفق وعلى مهل لتضعنا في زورق النجاة نحو أرض النجاة والحلم الكائن فينا والامل ... كل التضامن مع الأستاذ البشير الوسلاتي ومع كل العقول النيّرة ولا عزاء لكل المعادين لتحرّر العقل وتفتّح البصيرة...

 منارة تليجاني